تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

الضحى عن مسروق عن عبد الله : لم ينشق بمكة. وقال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وقيل انشق بمعنى سينشق يوم القيامة ، وأوقع الماضي موقع المستقبل وهو خلاف الإجماع وقيل انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقا وأنشد النابغة (١) :

فلما أدبروا ولهم دوي

دعانا عند شق الصبح داع

وإنما ذكرت ذلك تنبيها على ضعفه. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة فسلوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.)

(وَإِنْ يَرَوْا) أي : كفار قريش (آيَةً) أي : معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانشقاق القمر (يُعْرِضُوا) عنها (وَيَقُولُوا) هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي : ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مرّ الشيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم : قر واستقر قاله مجاهد وقتادة ، وقال أبو العالية والضحاك : مستمرّ أي : قوي شديد ، من قولهم : مر الحبل إذا صلب واشتد ، وأمررته : إذا أحكمت فتله ، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم.

وقيل : مستمرّ أي دائم ، فإنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي كل زمان بمعجز فقالوا : هذا سحر مستمرّ دائم لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السحرة ، فإنّ بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكلّ قاله الزمخشري ومنه قول الشاعر (٢) :

ألا إنما الدنيا ليال وأعصر

وليس على شيء قديم بمستمرّ

وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال ألا إنّ الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم مستمرّ دائم مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقه ودامت حاله قيل فيه قد استمّر وقال أبو حيان : سبب نزولها أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا. بالإيمان إن فعل ذلك وقال ليلة بدر أي ليلة أربعة عشر في الشهر فسأل ربه فانشق القمر فقالوا سحر مستمرّ ولم يؤمنوا.

(وَكَذَّبُوا) بكون انشقاقه دالا على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجزموا بالتكذيب عنادا (وَاتَّبَعُوا) أي : بمعالجة فطرتهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق (أَهْواءَهُمْ) في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر القمر وأنه خسوف في القمر وظهور شيء في جانب آخر من الجوّ يشبه نصف القمر وأنه سحر أعيننا وأنّ القمر لم يصبه شيء فهذه أهواؤهم.

قال القشيري : إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله تعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصروا الرشد واتباع الرضا مقرون بالتصديق لأنّ الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق.

(وَكُلُّ أَمْرٍ) أي : من أموركم من الخير أو الشرّ (مُسْتَقِرٌّ) أي : بأهله في الجنة أو النار وقال قتادة وكل أمر مستقرّ فالخير مستقر بأهل الخير والشرّ مستقرّ بأهل الشرّ وقيل مستقرّ قول المصدّقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب ، وقيل : كل أمر مستقرّ في علم الله تعالى لا يخفى

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان النابغة ص ١٩٢.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٤١

عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا كقوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي أهل مكة في القرآن قبل الانشقاق (مِنَ الْأَنْباءِ) أي : أخبار إهلاك الأمم الماضية المكذبة رسلهم لأنّ الأنباء الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل : ٢٢] لأنه كان خبرا عظيما له وقع وخطر وقال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [الحجرات : ٦] أي بأمر عظيم له خطر وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال (ما فِيهِ) خاصة (مُزْدَجَرٌ) أي : عمّاهم فيه من الباطل ، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله تعالى.

تنبيه : المزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار والدال بدل من تاء الافتعال وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة وما موصولة أو موصوفة.

وقوله تعالى : (حِكْمَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر (بالِغَةٌ) أي : لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق (فَما تُغْنِ) أي : تنفع (النُّذُرُ) أي : الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.

قال البقاعي : ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول.

تنبيه : يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولا مقدّما أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئا والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل.

ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي : كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده.

تنبيه : قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي إنّ قول المفسرين في قوله تعالى : (فَتَوَلَ) منسوخ ليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام وقوله تعالى : (يَوْمَ) منصوب باذكر ، أي : واذكر يوم (يَدْعُ الدَّاعِ.) وقيل : منصوب بيخرجون بعده والداعي معرف كالمنادي في قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) [ق : ٤١] لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إنّ مناديا ينادي وداعيا يدعو ، فقيل : الداعي إسرافيل عليه‌السلام ينفخ قائما على صخرة بيت المقدس قاله مقاتل ، وقيل : جبريل عليه‌السلام وقيل : ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا جاء رجل فقال الرجل قاله الرازي. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذف الياء بعد العين وقفا وإثباتها وصلا وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا والباقون بحذفها وقفا ووصلا (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي : منكر فظيع لم ير مثله فينكرونه استعظاما.

فإن قيل ما ذلك الشيء المنكر أجيب بأنه الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع فإن قيل النشر لا يكون منكرا فإنه إحياء ولأنّ الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجزى عليه لينكره أجيب بأنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] وقرأ ابن كثير بسكون الكاف والباقون بالرفع.

١٤٢

ولما بين تعالى دعاءه بما هال أمره بين حال المدعوّين زيادة في الهول فقال تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي : ينظرون نظر الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو شرّ حال ، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأنّ الذل والعز يتبين في النظر والذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلا مع هيبة يعرف منها ذلك كما قال تعالى : (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين والباقون بضم الخاء ولا ألف بعدها وفتح الشين مشدّدة أمّا القراءة الأولى فهي جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدّم على الفاعل وحد تقول : تخشع أبصارهم ، ولا تقول : تخشعن أبصارهم وأمّا القراءة الثانية فجاءت على لغة طيىء يقولون : أكلوني البراغيث قال الزمخشري : ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم ويقع أبصارهم بدلا عنه ا. ه. وتقدّم نظير ذلك في قوله تعالى في الأنبياء : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] وجملة (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) أي : الناس (مِنَ الْأَجْداثِ) أي : القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ) أي : في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض وصغارهم وضعفهم وتموّجهم يقال في الجيش الكثير المائج بعضه فوق بعض جاؤوا كالجراد وكالذباب (مُنْتَشِرٌ) أي : منبث متفرّق في كل مكان لكثرتهم لا يدرون أين يذهبون.

(مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين مادّي أعناقهم (إِلَى الدَّاعِ) مصوبي رؤوسهم إليه لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذل وخضوع وصمت واستكانة هذا حال الكل ، وأمّا الكافر فنبه عليه بقوله تعالى : (يَقُولُ) أي : على سبيل التكرار (الْكافِرُونَ) أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة : (هذا) أي الوقت الذي نحن فيه لما نرى فيه من الأهوال (يَوْمٌ عَسِرٌ) أي : في غاية العسر والصعوبة والشدّة وذلك بحسب حالهم فيه كما قال تعالى في سورة المدّثر : (يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ) [المدثر : ٩ ـ ١٠].

ولما فرغ من حكاية كلام الكافرين ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال تعالى:

(كَذَّبَتْ) أي : أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل (قَبْلَهُمْ) أي : أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ) مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار ، وأنث فعلهم تحقيرا لهم ، وتهوينا لأمرهم في جنب قدرته تعالى.

فإن قيل : إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق؟ أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام على ما له من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة (وَقالُوا) زيادة على التكذيب (مَجْنُونٌ) أي : فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ.

(وَازْدُجِرَ) وهل هذا من مقولهم أي قالوا : إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد ، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى ، وقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦].

١٤٣

قال الرازي : وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر من تقدّمه وأيضا يترتب عليه قوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ) وهذا الترتيب في غاية الحسن ، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته (أَنِّي) أي : بأني (مَغْلُوبٌ) أي : من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغا في الشكاية وإظهار لذل العبودية ؛ لأنّ الله تعالى عالم بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه ، وقال ابن عطية : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل : وهو ضعيف. (فَانْتَصِرْ) أي : أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم.

(فَفَتَحْنا) أي : بسبب دعائه فتحا يليق بعظمتنا (أَبْوابَ السَّماءِ) أي : كلها في جميع الأقطار ، وعبّر بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبوابا تفتح وتغلق وقيل : هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى : (فَفَتَحْنا) بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف.

وفي الباء في قوله تعالى : (بِماءٍ) وجهان : أظهرهما : أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء (مُنْهَمِرٍ) أي : منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظما ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارج عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يوما.

(وَفَجَّرْنَا) أي : صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا (الْأَرْضَ عُيُوناً) أي : جميع عيون الأرض ولكنّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيونا وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها.

(فَالْتَقَى الْماءُ) أي : المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا ، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى : (عَلى أَمْرٍ) أي : حال (قَدْ قُدِرَ) أي : قضي أي في الأزل وهو هلاكهم غرقا بماء مقدّر لا يزيد قطرة ولا يهلك غير من أمرناه بإهلاكهم.

(وَحَمَلْناهُ) أي : نوحا عليه‌السلام تتميما لانتصاره (عَلى ذاتِ) أي : سفينة صاحبة (أَلْواحٍ) أي : أخشاب نجرت حتى صارت عريضة (وَدُسُرٍ) جمع دسار ككتاب وهو ما تشدّ به السفينة من مسمار وحديد أو خشب أو من خيوط الليف ونحوها قال البقاعي : ولعله عبّر عن السفينة بما شرحها تنبيها على قدرته على ما يريد.

(تَجْرِي) أي : السفينة (بِأَعْيُنِنا) أي : محفوظة من أن تدخل بحر الظلمات ، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات بحفظنا على ما لنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء بأعين كثيرة ولا يغيب عنه أصلا ، وجوّزوا أن يكون جمع تكسير لعين الماء. وقوله تعالى : (جَزاءً) منصوب بفعل مقدّر أي أغرقوا انتصارا (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح عليه الصلاة والسلام أو الباري تعالى.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي : أبقينا هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة وقيل تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقاياها أول هذه الأمّة (آيَةً) أي : علامة عظيمة على ما لنا من العلم المحيط والقدرة التامّة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي :

١٤٤

معتبر ومتعظ بها وأصله مذتكر أبدلت التاء دالا مهملة وكذا المعجمة وأدغمت فيها.

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ) أي وجد وتحقق (عَذابِي) أي : لمن كفر وكذب رسلي (وَنُذُرِ) أي : إنذاري ، استفهام تقرير فكيف خبر كان وهي للسؤال عن الحال والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفا جميع ما في هذه السورة ، والباقون بغير ياء وقفا ووصلا.

قال البقاعي : ولما كان هذا المفصل مما أنزل أول القرآن تيسيرا على الأمّة نبه على ذلك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) أي : على ما لنا من العظمة (الْقُرْآنَ) أي : على ما له من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه وصفا لنا (لِلذِّكْرِ) أي : الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والتشريف والحفظ لمن يراعيه. قال ابن برجان : أنزلناه باللسان العربي ونزلناه للإفهام تنزيلا ، وضربنا لهم الأمثال ، وأطلنا لهم في هذه الأعمار ليتذكروا الميثاق المأخوذ عليهم ، وقال القشيري : يسّر قراءته على ألسنة قوم وعلمه على قلوب قوم وفهمه على قلوب قوم وحفظه على قلوب قوم وكلهم أهل القرآن وخاصته وليس يحفظ من كتب الله تعالى عن ظهر قلب غيره. قاله المحلي. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : معتبر ومتعظ بها وتقدم أصله.

ولما انقضت قصة نوح عليه‌السلام على هذا الهول العظيم ذكر قصة عاد لأنها أعظم قصة جرت بعد قوم نوح فيما تعرفه العرب بقوله تعالى :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

(كَذَّبَتْ عادٌ) أي : أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولهم هود عليه الصلاة والسلام في دعائه لهم إليّ وإنذاره عذابي (فَكَيْفَ) أي : فعلى أي الأحوال لأجل تكذيبهم (كانَ عَذابِي) لهم (وَنُذُرِ) أي : وإنذاري إياهم بلسان رسولي قبل نزوله ، أي وقع موقعه.

فإن قيل : لم لم يقل : فكذبوا هودا كما قال تعالى في قصة نوح : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أجيب : بأنّ تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم وإمّا لأن قصة عاد ذكرت مختصرة.

ثم بين عذابهم بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة. (عَلَيْهِمْ رِيحاً) وعبر بحرف الاستعلاء إعلاما بالنقمة ، ثم وصف الريح بقوله تعالى : (صَرْصَراً) أي : شديدة الصوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوت ، وقيل : الشديدة البرد من الصر ، وهو البرد ، وقال مكي : أصله صرّر من صرّ الشيء إذا صوت لكن أبدلوا من الراء المشدّة صادا وهذا قول الكوفيين وقال الرازي : الصرصر : الدائمة الهبوب ، من أصر على الشيء إذا دام وثبت.

وأكد شؤمها بذم زمانها فقال تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) أي : شديد القباحة قيل : كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر وهو شوال لثمان بقين منه ، واستمر إلى غروب شمس الأربعاء آخره ، فإنه

١٤٥

قال تعالى في سورة الحاقة : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [فصلت : ١٦] وقال تعالى في حم السجدة : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان ، وقوله تعالى : (مُسْتَمِرٍّ) أي : دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام ، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام ، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار ، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه ، هذا وصفها في ذاتها.

وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى : (تَنْزِعُ) أي : تأخذ (النَّاسَ) أي : الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض : بعضهم من وجهها ، وبعضهم من حفر حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم.

وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ) أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم أعجاز نخل أي أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله منقعر صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل : وإنما ذكّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) [ق : ١٠] وذلك حال عنها وهي كالوصف ، وقال تعالى : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] و (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) فحيث قال : منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور ، والخاوي والباسق فاعل ، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى : تقول : امرأة قتيل ، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها ، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.

تنبيه : الأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء ، ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور ، والمنقعر المنقلع من أصله : يقال : قعرت النخلة : قلعتها من أصلها فانقعرت ، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها ، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره.

وكرّر قوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) للتهويل. وقيل : الأوّل : لما حاق بهم في الدنيا ، والثاني : لما يحيق بهم في الآخرة ، كما قال أيضا في قصتهم : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [فصلت : ١٦].

وتقدّم تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وكرّره إيذانا بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر ، وتعجز عنها منهم القدر.

ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي قصة عاد في الفظاعة ، فقال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) أي قوم صالح عليه‌السلام وقوله تعالى : (بِالنُّذُرِ) جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه‌السلام إن لم يؤمنوا به.

ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى : (فَقالُوا) منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار (أَبَشَراً) إنكار الرسالة ، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره (نَتَّبِعُهُ) الآتي.

١٤٦

وقولهم : (مِنَّا) نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا ، وقولهم : (واحِداً) نعت له أيضا ، ثم عظموا الإنكار بقولهم (نَتَّبِعُهُ) أي : نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا ، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى : كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.

ثمّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين : (إِنَّا إِذاً) أي : إن أتبعناه (لَفِي ضَلالٍ) أي : ذهاب عن الصواب محيط بنا (وَسُعُرٍ) أي : ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول ، وقيل : السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر (١) :

كأنّ بها سعر إذا العيس هزها

ذميل وإرخاء من السير متعب

ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا : (أَأُلْقِيَ) أي : أنزل (الذِّكْرُ) أي : الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة (عَلَيْهِ) لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئا منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم : (مِنْ بَيْنِنا) أي : وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفا ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو ، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا ، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق ، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال ، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واوا والتحقيق.

ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) أي : بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر (أَشِرٌ) أي : متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع ، قال الله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ) أي : بوعد لا خلف فيه (غَداً) أي : في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة ، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.

وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان : أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه‌السلام لقومه. والثاني : أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات ، والباقون بياء الغيبة جريا على الغيب قبله في قوله تعالى : (فَقالُوا أَبَشَراً) واختار هذه القراءة مكي ، لأنّ عليها الأكثر. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أي : وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحا عليه‌السلام : مخصصين له من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليه‌السلام نريد أن نعرف المحق ، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم ، فقالوا : ادع أنت فقال : فما تريدون؟ قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء ، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان ، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم ، وصدق هو عليه‌السلام في كل ما قال فأخبره ربه

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٤٧

سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها (فِتْنَةً لَهُمْ) أي : امتحانا يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها وتخليهم عنها ، لأنّ المعجزة فتنة لأنّ بها يتميز المثاب من المعذب ، فالمعجزة تصديق وحينئذ يفترق المصدّق من المكذب ، أو يقال : إخراج الناقة من الصخرة معجزة ودورانها بينهم وقسمة الماء كان فتنة ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) ولم يقل : مخرجوا.

(فَارْتَقِبْهُمْ) أي : كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم (وَاصْطَبِرْ) أي : عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم ، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق (وَنَبِّئْهُمْ) أي : أخبرهم إخبارا عظيما بأمر عظيم وهو (أَنَّ الْماءَ) أي : الذي يشربونه وهو ماء بئرهم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي : بين قوم صالح عليه‌السلام والناقة فغلّب العاقل عليها ، والمعنى أنا إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه ، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم وتوسع الكل بدل الماء لبنا.

(كُلُّ شِرْبٍ) أي : نصيب من الماء (مُحْتَضَرٌ) أي : فالناقة تحضر الماء يوم وردها وتغيب عنهم يوم ورودهم قاله : مقاتل ، وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غيبها فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.

تنبيه : الحكمة في قسمة الماء إمّا لأنّ الناقة عظيمة الخلق فتنفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم ، وإمّا لقلة الماء فلا يحملهم ، وإمّا لأنّ الماء كان مقسوما بينهم لكل فريق يوم ، فيوم ورد الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النقصان على الكل ، ولا تختص الناقة بجميع الماء ، روي أنهم كانوا يكتفون في يوم وردها بلبنها ، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها وظاهر قوله تعالى : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يعضد الوجه الثالث ، وحضر واحتضر بمعنى واحد.

وقوله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) فيه حذف قبله ، أي : فتمادوا على ذلك ثم ملّوه فعزموا على عقرها فنادوا صاحبهم وهو قدّار بن سالف الذي انتدبوه بطرا وأشرا لقتل الناقة وكذبا في وعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وكان أشجعهم ، وقيل كان رئيسهم.

(فَتَعاطى) أي : فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث به (فَعَقَرَ) أي : فتسبب عن ذلك عقرها ، وقيل : فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف فقتلها ، والتعاطي تفاعل الشيء بتكليف. قال محمد بن إسحق كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة ثم نحرها. وقال ابن عباس : كان الذي عقرها احمر أزرق أشقر أكشف أقعى يقال له قدار بن سالف ، والعرب تسمي الجزار قدار تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم آل ثمود.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) أي : كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه (وَنُذُرِ) أي : إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، أي وقع موقعه.

وبينه بقوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَرْسَلْنا) أي : إرسالا عظيما (عَلَيْهِمْ صَيْحَةً) وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابه بقوله تعالى : (واحِدَةً) صاحها عليهم جبريل عليه‌السلام فلم يكن لهم بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة ، كما قال تعالى (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) وهو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك يحفظهنّ فيها من الذئاب والسباع ، وما

١٤٨

يسقط من ذلك فما داسته هو الهشيم والهشيم المهشوم المكسور ، ومنه سمي هاشم لهشمه الثريد في الجفان غير أنّ الهشيم يستعمل كثيرا في الحطب المتكسر اليابس قال المفسرون كانوا كالخشب المتكسر الذي يخرج من الحظائر ، بدليل قوله تعالى : (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : ٤٥] وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف ، وتشبيههم بالهشيم : إمّا لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان ، أو لانضمام بعضهم إلى بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يضعه شيئا فوق شيء منتظرا حضور من يشتري منه. قال ابن عادل : ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم ، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد ، كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ، وقوله تعالى : (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥].

تنبيهات : أحدها : أنه تعالى ذكر (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) في ثلاثة مواضع ؛ ذكرها في حكاية نوح عليه‌السلام بعد بيان العذاب ؛ وذكرها ههنا قبل بيان العذاب ؛ وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه ، وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان ، كقول العارف حكاية لغير العارف : هل تعلم كيف كان أمر فلان؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم ؛ كقول فلان : أي ضرب وأيما ضرب ، ويقول : ضربته وكيف ضربته؟ أي قويا وفي حكاية عاد ذكرها مرتين : للبيان والاستفهام.

ثانيها : أنه تعالى ذكر في حكاية نوح عليه‌السلام الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان ؛ لأنّ عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عمّ العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصا بهم.

ثالثها : أنه تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه ، لأنّ حال صالح عليه‌السلام كان أتمّ مشابهة بحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أتى بأمر عجيب أرضى ، وكان أعجب مما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنّ عيسى عليه‌السلام أحيى الميت ، لكن الميت كان محلا للحياة ، فقامت الحياة بإذن الله تعالى في محل كان قابلا لها ، وموسى عليه‌السلام انقلبت عصاه ثعبانا ، فأثبت الله تعالى له في الخشب الحياة بإذنه سبحانه ، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو ، فأشبه الحيوان في النمّو ، وصالح عليه‌السلام كان الظاهر في بدء خروج الناقة من الحجر ، والحجر جماد ليس محلا للحياة ، ولا محلا للنمو ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بأعجب من الكل ، وهو المتصرّف في الجرم السماوي الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء ، وأمّا الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد تقبل كل واحدة منها صورة الأخرى ، والسماويات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتمّ وأبلغ من معجزة صالح عليه‌السلام التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) أي : على ما لنا من العظمة (الْقُرْآنَ) أي : الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس ، (لِلذِّكْرِ) أي : الحفظ ، والتذكر ، والتدبر وحصول الشرف في الدارين ؛ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : من ناظر بعين الإنصاف ، والتجرّد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فيعينه عليه.

ولما انقضت قصة ثمود بما تعرفه العرب بالأخبار ، ورؤية الآثار ، فقال تعالى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ

١٤٩

نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) أي : وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه ، وإن كانوا في تكذيبهم هذا أضعف من عقول النساء عن التجرد عن الهوى بما دلّ عليه تأنيث الفعل بالتاء ، وكذا ما قبلها من القصص (بِالنُّذُرِ) أي : بالأمور المنذرة لهم على لسان نبيهم لوط عليه‌السلام.

ودلّ على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الأخبار عن عذابهم ، فقال تعالى مؤكدا توعدا لمن استمرّ على التكذيب (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي : ريحا شديدة ترميهم بالحصباء ، وهي صغار الحجارة الواحد دون ملء الكف فهلكوا (إِلَّا آلَ لُوطٍ) وهم من آمن به ، فكان إذا رأيته فكأنك رأيت لوطا عليه‌السلام لما يلوح عليه من أفعاله ، والمشي على منواله في أقواله وأفعاله (نَجَّيْناهُمْ) أي : تنجية عظيمة (بِسَحَرٍ) أي : بآخر ليلة من الليالي ، وهي الليلة التي عذب فيها قومه ، «وانصرف» لأنه نكرة لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها ، ولو قصد به وقت بعينه لمنع الصرف للتعريف ، والعدل عن أل هذا هو المشهور ، وزعم صدر الأفاضل : أنه مبني على الفتح كأمس مبنيا على الكسر.

تنبيه : قال الجلال المحلي : وهل أرسل الحاصب على آل لوط أو لا : قولان ؛ وعبر عن الاستثناء على الأوّل بأنه متصل ، وعلى الثاني بأنه منقطع ، وإن كان من الجنس تسمحا.

وقوله تعالى : (نِعْمَةً) أما مفعول له ؛ وإمّا مصدر بفعل من لفظها أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم ، إنعام فالتأويل : إمّا في العامل ، وإمّا في المصدر. وقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِنا) متعلق بنعمة ، أو بمحذوف صفة لها. (كَذلِكَ) أي : مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلناه جزاء لهم (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي : من آمن بالله تعالى ، وأطاعه قال بعض المفسرين : وهو وعد لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يصونهم عن الهلاك العام ؛ وقال الرازي : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة كما أنجاهم في الدنيا من العذاب ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٥] وقال مقاتل : من وحد الله تعالى لم يعذبه مع المشركين.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي : رسولنا لوط عليه‌السلام (بَطْشَتَنا) أي : أخذتنا المقرونة من الشدّة بما لنا من العظمة ، وهي العذاب الذي نزل بهم ، وقيل : هي عذاب الآخرة لقوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) [الدخان : ١٦](فَتَمارَوْا) أي تجادلوا وكذبوا (بِالنُّذُرِ) أي بإنذاره فكان سببا للأخذ.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي أرادوا أن يخلي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة

١٥٠

الأضياف ، ليخبثوا بهم ، وكانوا ملائكة في صورة شباب مرد ؛ وأفرد لأنّ المراد الجنس (فَطَمَسْنا) أي : فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا (أَعْيُنَهُمْ) أي : أعميناها ، وجعلناها بلا شق كباقي الوجه بأن صفقها جبريل عليه‌السلام بجناحه ؛ وقال الضحاك : بل أعماهم الله تعالى فلم يروا الرسل وقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا فلم يروهم ؛ وهذا قول ابن عباس وروي أنهم صارت أعينهم مع وجوههم كالصفيحة الواحدة ؛ وقال القشيري : مسح بجناحه على وجوههم فعموا ، ولم يهتدوا للخروج.

قال ابن جرير : والعرب تقول : طمست الريح الأعلام إذا دفنتها بما تسفي عليها ، فانطلقوا هاربين مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه ، بل يصادمون الجدران خوفا مما هو أعظم من ذلك ، وهم يقولون عند ذلك لوط سحر الناس ، وما أدّتهم عقولهم إلى أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم.

قال القشيري : وكذلك أجرى الله تعالى سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. وقوله تعالى : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي : إنذاري وتخويفي ، خطاب لهم أي : قلنا لهم على لسان الملائكة فذوقوا ، فهو خطاب مع كل مكذب أي : إن كنتم تكذبون فذوقوا. قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه‌السلام.

فإن قيل : النذر كيف تذاق؟ أجيب بأنّ المراد ثمرته وفائدته.

فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى : (عَذابِي) هو العذاب العاجل وبقوله تعالى : (وَنُذُرِ) هو العذاب الآجل : فهما لم يكونا في زمان واحد ، فكيف قال تعالى : (فَذُوقُوا)؟ أجيب : بأنّ العذاب الآجل أوّله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد ، وهو قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥].

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ) أي : أتاهم وقت الصباح ؛ وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الصاد ؛ والباقون : بلا إظهار ؛ وحقق المعنى بقوله تعالى : (بُكْرَةً) أي في أوّل نهار العذاب ؛ وانصرف بكرة لأنه نكرة ؛ ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف ؛ (عَذابٌ) أي : فقلع بلادهم ورفعها ؛ ثم قلبها وحصبها بحجارة النار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان ؛ (مُسْتَقِرٌّ) أي ثابت عليهم غير زائل ليس بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس ، فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار.

فقال لهم لسان الحال إن لم ينطق لسان المقال : (فَذُوقُوا) أي : بسبب أفعالكم الخبيثة (عَذابِي وَنُذُرِ.)

تنبيه : قد علم من تكرير هذا أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان ، وكان استئناف كل قصة منبها على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) أي : على ما لنا من العظمة (الْقُرْآنَ) أي : الجامع الفارق بين الحق والباطل ؛ ولو شئنا لأعليناه بما لنا من القدرة إلى حد تعجز القوى عن فهمه ، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته (لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : فيخلص نفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه

١٥١

هؤلاء أنفسهم ظنا منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلا منهم ، وعدم اكتراث بالعواقب.

ولما انقضت قصة لوط عليه‌السلام أتبعها قصة موسى عليه‌السلام لأنها بعد قوم لوط ؛ بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ) أي : فرعون ملك القبط بمصر ؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه ، وتخلقهم بأخلاقه (النُّذُرُ) أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهما‌السلام ؛ فلم يؤمنوا بل (كَذَّبُوا) أي : تكذيبا عظيما مستهزئين (بِآياتِنا) التي أتاهم بها موسى عليه‌السلام (كُلِّها) أي : التسع التي أوتيها وهي : العصا ، واليد ، والسنين ، والطمس ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

فإن قيل كيف قال : (وَلَقَدْ جاءَ) ولم يقل في غيره جاء؟ أجيب : بأنّ موسى عليه‌السلام لما جاء كان غائبا عن القوم ، فقدم عليهم كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٦١] وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور ؛ والنذر : الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليه‌السلام ، وقيل : النذر : الإنذارات

تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون : بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية ؛ ولهما أيضا إبدالها ألفا وورش على أصله في الهمزة المسهلة ؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان ، والباقون بالفتح ؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المدّ والتوسط والقصر ؛ (فَأَخَذْناهُمْ) أي : بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق (أَخْذَ عَزِيزٍ) أي : لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء (مُقْتَدِرٍ) أي : لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقبا لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه.

ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ) أي : الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه ، يا أيها المكذبون ، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه (خَيْرٌ) في الدنيا بالقوة والكثرة ، أو في الدين عند الله أو عند الناس (مِنْ أُولئِكُمْ) أي : المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.

تنبيه : قوله تعالى : (خَيْرٌ) مع أنّه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان (١) :

فشر كما لخير كما الفداء

أو هو بحسب زعمهم واعتقادهم ؛ أو المراد بالخير شدّة القوّة ؛ أو لأنّ كل ممكن فلا بدّ وأن يكون له صفات محمودة ، فالمراد تلك الصفات (أَمْ لَكُمْ) أي : يا أهل مكة (بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي : أنزل إليكم من الكتب السماوية أنّ من كفر منكم فهو في أمان من عذاب الله تعالى والاستفهام هنا أيضا بمعنى النفي أي ليس الأمر كذلك.

__________________

(١) صدره :

أتهجوه ولست له بندّ

والبيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٢ ، ٢٣٧ ، وشرح الأشموني ٧ / ٣٨٨ ، ولسان العرب (ندد) ، (عرش).

١٥٢

(أَمْ يَقُولُونَ) أي : كفار قريش (نَحْنُ جَمِيعٌ) أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له (مُنْتَصِرٌ) أي على كل من يعاديه ، لأنهم على قلب رجل واحد ولم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي.

ولما قال أبو جهل يوم بدر : إنا جميع منتصر نزل (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه. وقال مقاتل : ضرب أبو جهل يوم بدر فرسه فتقدم من الصف وقال : نحن ننتصر اليوم على محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ،) كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في درعه ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فهزموا ببدر ونصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي.

(بَلِ السَّاعَةُ) أي : القيامة التي يكون فيها الجمع الأكبر والهول الأعظم (مَوْعِدُهُمْ) أي : للعذاب (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أي من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا وأدهى أفعل تفضيل من الداهية ، وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه فهي أمر عظيم ؛ يقال : دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا ؛ وقال ابن السكيت دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح (وَأَمَرُّ) لأنّ عذابها للكفار غير مفارق ولا مزايل فهي أعظم نائبة وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر وفي رواية : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يثب في درعه ويقول : اللهمّ إن قريشا جادلتك وتجاهر رسولك بفخرها بخيلها فأخنهم الغداة. يقال : أخنى عليه الدهر أي غلبه وأهلكه ومنه قول النابغة (١) : [من البسيط]

أخني عليها الذي أخنى على لبد

وأخنيت عليه أفسدت ثم قال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال عمر : فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنّه أخبر عن غيب فكان كما أخبر ؛ قال ابن عباس : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت : «لقد أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وإني لجارية ألعب» (٢)(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) وعن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ، فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) يريد يوم القيامة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) مما لحقهم يوم بدر» (٣).

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) أي : المشركين القاطعين لما أمر الله تعالى أن يوصل (فِي ضَلالٍ) أي : ك بالقتل في الدنيا (وَسُعُرٍ) أي : نار مسعرة أي مهيجة في الآخرة وقيل : (فِي ضَلالٍ) أي :

__________________

(١) صدره :

أمست خلاء وأمس أهلها احتملوا

والبيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٥٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٥ ، والدرر ٢ / ٥٧ ، ولسان العرب (لبد) ، (خنا).

(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٧٦.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٧٧.

١٥٣

عمى عن القصد بالبعث وسعر. قال الضحاك أي : نار تسعر عليهم وقيل ضلال ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة ، وسعر جمع سعير نار مسعرة وقال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. وقال قتادة : في عناء وعذاب.

ثم بين عذابهم في الآخرة بقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) أي : في القيامة إهانة لهم من أي ساحب كان (فِي النَّارِ) أي الكاملة النارية (عَلى وُجُوهِهِمْ) لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى مقولا لهم من أي قائل اتفق (ذُوقُوا) لأنه لا منعة لهم ولا حمية بوجه (مَسَّ سَقَرَ) أي : حرّ النار وألمها فإن مسها سبب للتألم بها ، وسقر علم لجهنم مشتقة من سقرته الشمس أو النار أي لوحته ويقال : صقرته بالصاد وهي مبدلة من السين قال ذو الرمة (١) :

إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها

بأفنان مربوع الصريمة معبل

وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. وقال بعض المفسرين : إنّ هذه الآية نزلت في القدرية لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مجوس هذه الأمة القدرية» (٢) وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله سبحانه (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) وفي مسلم عن أبي هريرة قال : «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فنزلت هذه الآية إلى آخرها» (٣) قال الرازي : والقدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات الكواكب لما مرّ أنّ قريشا خاصموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، ومذهبهم أن الله تعالى مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقا كالقوم فالقدرية في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة ؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة ؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة ؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري : هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة.

أما من الكتاب فقوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي : قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه.

وأمّا من السنة : فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء» (٤). وعن طاوس اليماني قال : أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٤٥٨ ، ولسان العرب (ذوب) ، (صقر) ، (ربع) ، (عبل) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٣٧٥ ، وكتاب العين ٥ / ٦٠.

(٢) أخرجه أبو داود في السنة حديث ٤٦٩١ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٩٢.

(٣) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٦ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٩٠.

(٤) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٣.

١٥٤

يقولون كل شيء بقدر الله تعالى ؛ قال : وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» (١) وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله : بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، وبالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر ؛ وزاد عبد الله خيره وشره» (٢).

تنبيه : (كُلَّ شَيْءٍ) منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا) في كل شيء أردناه وإن عظم أمره (إِلَّا واحِدَةٌ) أي : فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية ؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى (كُنْ) كما قال تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر ؛ وعن ابن عباس معناه : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا) أي : بما لنا من العظمة (أَشْياعَكُمْ) أي : أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفا من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) قال الجلال المحلي : أي : العباد. وقال أكثر المفسرين : أي : الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره (فِي الزُّبُرِ) أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل : في اللوح المحفوظ. وقيل : في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق عليه القراء بما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي : من الخلق وأعمالهم وآجالهم (مُسْتَطَرٌ) أي : مكتوب في اللوح المحفوظ.

ولما وصف الكفار وصف المؤمنين مؤكدا ردا على المنكر فقال عز من قائل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي : العريقين في وصف الخوف من الله الذي وفقهم لطاعته (فِي جَنَّاتٍ) أي : خلال بساتين ذات أشجار تستر داخلها وقوله تعالى : (وَنَهَرٍ) أريد به الجنس : لأن فيها أنهارا من ماء وعسل ولبن وخمر ؛ أفرده لموافقة رؤوس الآي ولشدة اتصال بعضها ببعض فكأنها شيء واحد. والمعنى : أنهم يشربون من أنهارها وقيل : هو السعة والصفاء من النهار.

وكما جعل للمتقين في تلك الدار ذلك جعل لهم في هذه الدار أيضا جنات العلوم وأنهار المعارف ولهذا كانوا (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، ولم يقل في مجلس صدق ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٥.

(٢) أخرجه الترمذي في القدر حديث ٢١٤٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٨١.

١٥٥

لأنّ القعود جلوس فيه مكث ومنه قواعد البيت والقواعد من النساء ولذا قال : (عِنْدَ مَلِيكٍ) أي : ملك تام الملك (مُقْتَدِرٍ) أي : قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى. وعند إشارة للرتبة والكرامة والمنزلة من فضله تعالى ، جعلنا الله تعالى ومحبينا منهم.

وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة القمر في كل غبّ ـ أي يقرأ يوما ويترك يوما ـ بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» (١). حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٤١.

١٥٦

سورة الرحمن

وتسمى عروس القرآن

لأنها مجمع النعم والجمال والبهجة في نوعها والكمال مكية كلها في قول الحسن وعروة وابن الزبير وعطاء وجابر ؛ وقال ابن عباس : إلا آية منها وهي : قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] الآية وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها قال ابن عادل : والأوّل أصح لما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود ، وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط فمن رجل يسمعهموه ، فقال ابن مسعود : أنا فقالوا نخشى عليك وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ثم قام عند المقام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى بها رافعا صوته وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه ، وصح أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قام يصلي الصبح بنخلة فقرأ بسورة الرحمن ، ومرّ النفر من الجن فآمنوا به» (١) وهي سبع وثمانون آية ، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته ؛ (الرَّحْمنِ) الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته ؛ (الرَّحِيمِ) الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا من الذلّ المفيد للعز بلزوم عباداته.

ولما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها بقوله تعالى :

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ١٥١.

١٥٧

(١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))

(الرَّحْمنُ) (عَلَّمَ) أي : من شاء (الْقُرْآنَ) وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم ، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله تعالى رتبة ، وأعلاها منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا ؛ وهو سنام الكتب السماوية ، ومصداقها والعيار عليها.

تنبيه : أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأنّ آخر تلك مليك مقتدر ، وأوّل هذه أنه رحمن. قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي : الرحمن : فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى الر ، وحم ، ون ، فيكون مجموع هذه الرحمن. ولله تبارك وتعالى رحمتان : رحمة سابقة بها خلق الخلق ؛ ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمن باعتبار السابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره رحمن ولما خلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطاقة البشرية فأطعم ونفع جاز أن يقال له : رحيم.

وفي إعراب الرحمن ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي الله الرحمن الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر أي الرحمن ربنا. الثالث : أنه مبتدأ خبره علم القرآن ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أجيب بأنا إن قلنا بعطف الراسخين على الله فهو ظاهر ، وإن قلنا بالوقف على الله ويبتدأ بقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ) [آل عمران : ٧] فلأن من علم كتابا عظيما فيه مواضع مشكلة قليلة وتأمّلها بقدر الإمكان فإنه يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه بخلاف الكتب التي تستخرج بقوة الذكاء والفكر.

واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أكثر المفسرين : نزلت حين قالوا : وما الرحمن ، وقيل : نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ؛ فأنزل الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : سهله ليذكر ويقرأ ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧].

ولما كان كأنه قيل كيف يعلمه وهو صفة من صفاته ، ولمن علمه قال تعالى مستأنفا أو معللا (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : الجنس بأن قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلا عن جميع الجمادات ، وأصله منها ثم عن سائر الناميات ، ثم عن غيره من الحيوانات ، وخلقه له دليل على خلقه لكل شيء موجود (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] وقيل علم القرآن جعله علامة.

وآية (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية ، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر ، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره : تارة بالقول وتارة بالفعل ، نطقا وكتابة وإشارة وغيرها ، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن ، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : يعني آدم عليه‌السلام علم أسماء كل شيء ، وقيل : علمه اللغات كلها وكان

١٥٨

آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية ، وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان : المراد بالإنسان ههنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد من البيان : الحلال والحرام والهدى من الضلال ، وقيل : ما كان وما يكون لأنه بين عن الأولين والآخرين ، وعن يوم الدين ، وقال الضحاك : البيان : الخير والشرّ ، وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره. وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل : بيان الكتابة والخط بالقلم نظيره قوله تعالى : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٤].

فإن قيل : لم قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟ أجيب : بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.

فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن؟ أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص ، وبأنّ المراد من قوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ :) تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه ؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل : تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه.

تنبيه : هذه الجمل من قوله تعالى : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه ؛ كقولك : فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره ؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف ؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن.

ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى : (الشَّمْسُ) وهي آية النهار (وَالْقَمَرُ) وهي آية الليل (بِحُسْبانٍ) فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولو لا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما ، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا ، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة ، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار ، ولو لا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا إن كان الدهر كله ليلا أو نهارا. وقال السدي : بحسبان تقدير آجالهما أي : يجريان بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [لقمان : ٢٩].

(وَالنَّجْمُ) أي : النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول (وَالشَّجَرُ) أي : الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) [الصافات : ١٤٦] في سورة الصافات (يَسْجُدانِ) أي : ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعا انقياد الساجد من المكلفين طوعا وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء ، وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨] وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ؛ وقيل : سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي.

١٥٩

وقال النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عزوجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عزوجل وانقيادها له ، ومن الحيوان كذلك.

فإن قيل : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.

فإن قيل : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ أجيب : بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل ، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ، وأنّ جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.

(وَالسَّماءَ) أي : ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى : (رَفَعَها) أي حسا قال البقاعي : بعد ما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها ؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي : خلقها مرفوعة ؛ قال البيضاوي : محلا ورتبه ، وقال الزمخشري : حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.

(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي : العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض» (١) وقال السدي : وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي : ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل ، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن : ٩] والقسط هو العدل ؛ وقيل هو الحكم ، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.

أن أي : لأجل أن (لا تطغوا) أي : تتجاوزوا الحدود (فِي الْمِيزانِ) فمن قال : الميزان العدل قال : طغيانه الجور ؛ ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال : طغيانه البخس قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال : إنه الحكم قال : طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي : وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه.

فإن قيل : إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء؟ أجيب : بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير ، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معيارا بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان ، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس ، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس ، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «خلق الله السموات والأرض بالعدل». أخرجه بهذا اللفظ القرطبي في تفسيره ١٣ / ٢٤٦.

١٦٠